فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إله للشمس وإله للسماء وإله للأرض وإله للماء وإله للهواء، حينئذ يكون كل إله من هذه الآلهة عاجزا عن أن يدير ويقوم على أمر آخر غير ما هو إله وقائم عليه ولنشأ بينهم خلاف وشقاق يوضح ذلك قوله تعالى: {لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91].
فإله الشمس قد يفصلها عن الكون، وإله الماء قد يمنعه عن بقية الكائنات، ويحسم الحق الأمر فيقول: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلًا} [الإسراء: 42].
ويقول سبحانه: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}.
إذن فالنواميس التي تراها أيضًا محكومة بالإله الواحد، ويأتي الرسول ليقول لك: هناك إله واحد، ويبلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، و«لا إله» نفت أنه لا آلهة أبدًا. وبعدها قال: إلا الله، وهذه من مصلحة الإنسان حتى لا يكون ذليلًا وخاضعًا وعبدًا لإله الشمس أو لإله الهواء أو لإله الماء. وقال الحق: {ضَرَبَ الله مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر: 29].
فربنا يريد أن يريحنا من «الخيْلة»، والوهم والاضطراب والتردد.. إنه إله واحد، وعندما يحكم الله حكمًا فلا أحد يناقضه، وسبحانه يهدينا بما يشرعه لنا؛ لأنه سبحانه ليس له هوى فيما يشرع؛ لأن معنى الهوى أن تجعل الحركة التي تريدها خادمة لك في شيء، والله لا يحتاج إلى أحد لأنه خلق الوجود مله قبل أن يخلق الخلق، وليس لأحد ممن خلق- مهما أوتي من العلم ورجاجة العقل أن تكون له قدرة أو أي دخل في عملية الخلق أو تنظيمه.
{يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ}، مادام قد اتبع رضوانه فيهديه إلى سبل السلام، إذن فإن هناك هدايتين اثنتين: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، وقال في آية أخرى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
فإياك أن تظن أن التقوى لن تنال ثوابها وجزاءها إلا في الآخرة؛ لأنه كلما فعلت أمرًا وتلتفت وجدت آثاره في نفسك، تصلي تجد أمورك خَفَّت عن نفسك، فلا ترتكب السيئة في غفلة من الناس، قلبك لا يكون مشغولًا بأي شيء، ويحيا المؤمن في سلام مع نفسه أبدًا. إذن فسبل السلام متعددة: سبل السلام مع الله، سبل السلام مع الكون كله، سبل السلام مع مجتمعه، سبل السلام مع أسرته، سبل السلام مع نفسه.
ويقول الحق: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
إذن فهناك سبل سلام وسبل ضلال.
وفي هذه الآية يقول الحق: {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، والظلمات هي محل الاصطدام، وعندما يخرجهم من الظلمات إلى النور يرون الطريق الصحيح الموصل إلى الخير، والطريق الموصل إلى غير الخير. وبعدما يخرجون من الظلمات إلى النور تكون حركاتهم متساندة وليست متعاندة، ولا يوجد صدام ولا شيء يورثهم بغضاء وشحناء، أو المراد أنّه يهديهم إلى الصراط المستقيم وهو الجنة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله تعالى: {يَهْدِي}: فيه خمسة أوجه:
أظهرها: انه في محل رفع لأنه صفة ثانية ل {كتاب} وَصَفه بالمفرد ثم بالجملة وهو الأصل.
الثاني: أن يكون صفة أيضًا لكن ل {نور} ذَكَره أبو البقاء، وفيه نظر، إذ القاعدة انه إذا اجتمعت التوابعُ قُدِّم النعتُ على عطف النسق تقول: «جاء زيدٌ العاقلُ وعمرو» ولا تقول: «جاء زيدٌ وعمرو العاقل» ولأن فيه إلباسًا أيضًا.
الثالث: أن يكونَ حالًا من {كتاب} لأنَّ النكرة لَمَّا تخصصت بالوصفِ قَرُبَتْ من المعرفة، وقياسُ قول أبي البقاء أنه يجوز أن يكونَ حالًا من {نور} كما جاز أن يكون صفة له.
الرابع: أنه حال من {رسولنا} بدلًا من الجملة الواقعة حالًا له وهي قوله: {يبين}.
الخامس: أنه حالٌ من الضمير في {يبيِّن} ذكرهما أبو البقاء ولا يَخْفى ما فيها من الفصل، ولأنَّ فيه ما يُشْبه تهيئة العامل للعمل وقطعَه عنه.
والضميرُ في {به} يعودُ على مَنْ جَعَلَ {يَهْدي} حالًا منه أو صفة له، قال أبو البقاء: فلذلك أُفْرِد، أي: إنَّ الضمير في {به} أتى به مفردًا، وقد تقدَّمه شيئان، وهما نورٌ وكتابٌ، ولكنْ لَمَّا قَصَد بالجملة من قوله: {يهدي} الحالَ أو الوصفَ من أحدهما أفردَ الضمير، وقيل: الضمير في {به} يعودُ على الرسول. وقيل: يعودُ على السلام، وعلى هذين القولين لا تكونُ الجملة من قوله: {يهدي} حالًا ولا صفةً لعدم الرابط. و{مَنْ} موصولةٌ أو نكرة موصوفة، وراعى لفظَها في قوله: {اتَّبع} فلذلك أفرد الضمير، ومعناها، فلذلك جَمَعَه في قوله: {وَيُخْرِجُهُمْ}.
وقرأ عبيد بن عمير ومسلم بن جندب والزهري: {بهُ} بضمِّ الهاء حيث وقع، وقد تقدم أنه الأصل. وقرأ الحسن: {سُبْل} بسكون الباء، وهو تخفيف قياسي به كقولهم في «عُنُق»: «عُنْق»، وهذا أولى لكونه جمعًا، وهو مفعول ثاني ل {يهدي} على إسقاط حرف الجر أي: إلى سبل، وتقدم تحقيق نظيره، ويجوز أن ينتصب على أنه بدلٌ من {رضوانه}: إمَّا بدلُ كل مِنْ كل؛ لأن {سبل السلام} هي رضوان الباري تعالى، وإمَّا بدل اشتمال لأن الرضوان مشتمل على سبل السلام، أو لأنها مشتملة على رضوان الله تعالى، وإما بدل بعض من كل، لأنَّ سبل السلام بعض الرضوان. و{بإذنه} متعلق ب {يخرجهم} أي بتيسيره أو بأمره، والباء للحال أي: مصاحبين لتيسيره، أو للسببية، أي: بسببِ امره المنزل على رسوله. اهـ.

.تفسير الآية رقم (17):

قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تم ذلك موضحًا لأن من لم يتبع الكتاب الموصوف كان كافرًا وعن الطريق الأمم جائرًا حائرًا، وكان محصل حال اليهود كما رأيت فيما تقدم ويأتي من نصوص التوراة- أنهم لا يعتقدون على كثرة ما يرون من الآيات أن الله مع نبيهم دائمًا، وكان أنسب الأشياء بعد الوعظ أن يذكر حال النصارى في نبيهم، فإنه مباين لحال اليهود من كل وجه، فأولئك على شك في أنه معه، وهؤلاء اعتقدوا أنه هو، فقال تعالى مبينًا أنهم في أظلم الظلام وأعمى العمى: {لقد} أو يقال: إن اليهود لما فرطوا فكفروا، أفهم ذلك أن النصارى لما أفرطوا كفروا، فصار حالهم كالنتيجة لما مضى فقال: لقد {كفر الذين قالوا} مؤكدين لبعد ما قالوه من العقل فهو في غاية الإنكار {إن الله} أي على ما له من جميع صفات الكمال التي لا يجهلها من له أدنى تأمل إذا ترجى الهدى وانخلع من أسر الهوى {هو المسيح} أي عينه، وهو أقطع الكفر وأبينه بطلانًا، ووصفه بما هو في غاية الوضوح في بطلان قولهم لبعده عن رتبة الألوهية في الحاجة إلى امرأة فقال: {ابن مريم} فهو محتاج إلى كفالتها بما لها من الأمومة.
ولما بطل مدعاهم على أتقن منهاج وأخصره، وكان بما دق على بعض الأفهام، أوضحه بقوله: {قل} دالًا على أن المسيح عليه السلام عبد مملوك لله، مسببًا عن كفرهم {فمن يملك من الله} أي الملك الذي له الأمر كله {شيئًا} أي من الأشياء التي يتوهم أنها قد تمنعه مما يريد، بحيث يصير ذلك المملوك أحق به منه ولا ينفذ له فيه تصرف {إن أراد} أي الله سبحانه: {أن يهلك المسيح} وكرر وصفه بالنوبة إيضاحًا للمراد فقال: {ابن مريم} وأزال الشبهة جدًا بقوله: {وأمه} ولما خصهما دليلًا على ضعفهما المستلزم للمراد، عم دلالة على عموم القدرة المستلزم لتمام القهر لكل من يماثلهما المستلزم لعجز الكل المبعد من رتبة الإلهية، فقال موضحًا للدليل بتسويتهما ببقية المخلوقات: {ومن في الأرض جميعًا} أي فمن يملك منعه من ذلك.
ولما كان التقدير: فإن ذلك كله لله، يهلكه كيف شاء متى شاء، عطف عليه ما هو أعم منه، فقال معلمًا بأنه- مع كونه مالكًا مَلِكًا- له تمام التصرف: {ولله} أي الملك الأعلى الذي لا شريك له {ملك السماوات} أي التي بها قيام الأرض {والأرض وما بينهما} أي ما بين النوعين وبين أفرادهما، بما به تمام أمرهما؛ ثم استأنف قوله دليلًا على ما قبله ونتيجة له: {يخلق ما يشاء} على أي كيفية أراد- كما تقدم أن له أن يعدم ما يشاء كذلك، فلا عجب في خلقه بشرًا من أنثى فقط، لا بواسطة ذكر، حتى يكون سببًا في ضلال من ضل به، ولما دل ذلك على تمام القدرة على المذكور عم فقال: {والله} أي ذو الجلال والإكرام {على كل شيء} أي من ذلك وغيره {قدير}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ}.
في الآية سؤال، وهو أن أحدًا من النصارى لا يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم، فكيف حكى الله عنهم ذلك مع أنهم لا يقولون به.
وجوابه: أن كثيرًا من الحلولية يقولون: إن الله تعالى قد يحل في بدن إنسان معين، أو في روحه، وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال: إن قومًا من النصارى ذهبوا إلى هذا القول، بل هذا أقرب مما يذهب إليه النصارى، وذلك لأنهم يقولون: أن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام، فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتًا أو صفة، فإن كان ذاتًا فذات الله تعالى قد حلت في عيسى واتحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإله على هذا القول.
وإن قلنا: إن الأقنوم عبارة عن الصفة، فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول، ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى يلزم خلو ذات الله عن العلم، ومن لم يكن عالمًا لم يكن إلها، فحينئذ يكون الإله هو عيسى على قولهم، فثبت أن النصارى وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول إلاّ أن حاصل مذهبهم ليس إلاّ ذلك:
ثم إنه سبحانه احتج على فساد هذا المذهب بقوله: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن في الارض جَمِيعًا} وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط.
والتقدير: إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا، فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره، وقوله: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا} أي فمن يملك من أفعال الله شيئًا، والملك هو القدرة، يعني فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله تعالى ومنع شيء من مراده.
وقوله: {وَمَن في الارض جَمِيعًا} [المعارج: 14] يعني أن عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال، فلما سلمتم كونه تعالى خالقًا للكل مدبرًا للكل وجب أن يكون أيضًا خالقًا لعيسى. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} تقدّم في آخر «النساء» بيانه والقول فيه.
وكفر النصارى في دلالة هذا الكلام إنما كان بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم على جهة الدينونة به؛ لأنهم لو قالوه على جهة الحكاية منكرين له لم يكفروا.
{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا} أي من أمر الله.
و{يَمْلِكُ} بمعنى يقدِر؛ من قولهم ملكت على فلان أمره أي اقتدرت عليه.
أي فمن يقدِر أن يمنع من ذلك شيئًا؟ فأعلم الله تعالى أن المسيح لو كان إلهًا لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره، وقد أمات أُمه ولم يتمكن من دفع الموت عنها؛ فلو أهلكه هو أيضًا فمن يدفعه عن ذلك أو يرده. اهـ.